يسير الطفل الصغير متشبثا بيد والده .. متعثرا تارة في حذائه .. وتارة في حصوات صغيرة على أسفلت الطريق .. ولكن سرعان ما تحول تعثره إلى تعثر بصري فقد استقرت نظراته على القطار .. وكانت رأسه الصغيرة تلتف مع اتجاه القطار وعيناه زائغتان جهة القطار حتى كان وجهه في جهة مغايرة لوجهة والده .. فقد تعلق قلب الطفل الصغير الغض بنفثات القطار وصوته وصافرته .. ولم يأبه بما يثيره من أتربة.. وأصبح صوته يشجيه كنغمات حنون تربت على كتفيه وتهدهده حتى يروح في سبات عميق لا يفيق منه إلا شدة جذب والده له قائلا : انظر أمامك .. وكانت صافرته لا زالت تداعب سمعه وما أن تلاشت نظر لوالده قائلا : أبي أريد أن أركب القطار .. أريد أن أنزل مصر .. فرد والده قائلا : إن شاء الله ستركبه كثيرا .. كانت هذه الذكريات تداعب خيال طالب الجامعة حين جلس مسندا رأسه على راحة يده المرتكزة على شباك القطار .. وترنو نظرات متجمدة المقل لا تدري كم مر بها من أشجار الجازورينا وكم عدد أعواد أسلاك الهاتف والتي كان يستهويه عدها كلما جلس بجوار النافذة يتتبعها بكل شوق مارا بحالة من أسعد حالات تواجده بالقطار .. وكأنما قد أسكرته نسمات الصباح العليل الآتية من حقول البرسيم الخضراء .. وأشعة الشمس التي تخرج متهادية من وكرها تدغدغ مقلتيه .. ولكن أنى له أن ينعم بالجلوس بجوار النافذة مع كل هذا الزحام الشديد .. ولكن ما المانع أن يضحي بجزء من الوقت لينعم بجلسته المفضلة .. فكان يركب القطار حتى آخر الخط ليعود معه جالسا بجوار النافذة حتى باب الحديد ليتسنى له اللحاق بأول محاضرة .. وهكذا كان دأب الشاب المتيم بالقطار بشكل يومي فتكونت صداقة بينه وبين القطار وارتباط وجداني وعاطفي .. وحين يجلس الشاب لا يدري بمن حوله من الركاب أو بمن يجلس بجواره أو أمامه .. كل ما يشغله أن يجلس مستندا برأسه على يده المرتكزة على النافذة يمد بصره إلى الأفق تاركا لعقله وقلبه العنان بلا أي هدف تارة .. وتارة يتكتك بأطراف أنامله على النافذة متتبعا الأصوات التي تحدثها العجلات على وصلات القضبان .. وكأنه يستمع لقطعة موسيقية لكورساكوف فيحدق في النافذة منتشيا .. ويهتز جسده بإيقاع ثابت مع كل وصلة من وصلات القضبان .. وتمثلت تكتكات أنامله واهتزاز جسده ابتسامة رقيقة ارتسمت على شفتيه وملامح وجهه .. ولكن اليوم ليس ككل يوم فرفيقة نافذته اليوم والجالسة أمامه غير كل يوم .. هكذا خيل له .. واسترق نظرة فوجدها تبتسم وتتكتك بأناملها على النافذة .. ويهتز جسدها بنفس الإيقاع الثابت مع كل وصلة من وصلات القضبان .. واختلطت ابتسامتهما.. وللمرة الأولى يولي وجهه بعيدا عن النافذة .. ولم تبرح عينيه عيناها .. واختلطت نظراتهما.. وللمرة الأولى تفقد أذنه صوت القطار وصافرته وتنصت لدقات قلبه وتخيل دقات قلبها .. فاختلطت دقات قلبيهما .. واختلطت مشاعرهما .. وانتبه لصوت القطار منبها بدخول محطة باب الحديد .. صوت لم يعهده من قبل وكأنما القطار يحتفل معه بحبه الجديد .. وفاجأته قائلة أنها لم تكن المرة الأولى التي جلست فيها أمامك ذلك اليوم .. وكم تمنيت أن تنتبه لوجودي .. ابتسم وجال بخياله منتشيا ولم يخرجه من نشوته إلا طفلهما وهو يجذبه من يده قائلا : أبي أريد أن أركب القطار .. أريد أن انزل مصر .. فضحك وقال له : إن شاء الله ستركبه كثيرا ..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك 11 تعليقًا:
بعد السلام عليكم
لن أصرخ وأهلل وأشد فى شعرى وأجرى فى الشارع كما يفعل البعض لأنه أول تعليق.. فهذا أمر طبيعى أن أكون أول المعلقين .. لأننى منذ أخر مرة قرأت لك فيها وأنا واقف على باب المدونه أترقب ميلاد أبداعه جديده من أبداعاتك ..
فحمدا لله على سلامتك وبجد بجد مولود غايه فى الروعه والجمال .
تحياتى وخالص تقديرى
الكثير يعشق القطار ويعشق صوته وصفيره..
ولكنى أعشق النظر إلى الاراضى الزراعية التى يمر عليها القطار وأعشق مناظر الحياة اليومية فى البلاد التى يمر عليها وقد يحزننى بعض المناظر التى تدل على سوء الحال..
تحياتى لك
عشق القطار نابع من عشقى لمناظر الخضرة وسط الحقول على جانبى القضبان
كم هى رائعة الحقول واشجار النخيل والجازوينا والكافور
تلك ايام كنا نشتاق لرؤية القطار او الركوب فيه ولكن هيهات اختلف كل شىء
حمدلله على السلامة
وتسلم الايادى
تحياتى
ابتسامة
:):)
الخاتمة سعيدة
_على غير العادة_
:):)
عشت مع صفارة القطار
والقطار
والقضبان وكل شىء
انتهت فى اخر ثلاثة اسطر
بسرعة
وببراعة
ايها الجنى
حمدا لله على سلامتك
رائعة
خطفت منى التعليق الساخر الذى استلهمته قبل نهاية القصة بسطرين.
كنت أود أن أحذره من ان تكون شاهدته من قبل كثيرا وادعت فيما بعد أنها تهيم بما هو به هائم
ولكن سبق السيف العذل ماكان بينى وبين الحقيقة إلا سطرا واحدا و إذا بها تعترف له أنها ليست المرة الأولى ولكن بعدما تلقفت العريس و كتفته بالعيال.
إن كيدهن عظيم
تقبل تحياتى
السلام عليكم
القطار مثل الدنيا ولهذا تختلف الحكايات عن القطار فمنهم السعيد ومنهم الشقي
من أمتع ما قد أشاهده هو مراقبة الناس على محطة القطار لأنك ترى حقيقة الناس فالكل يريد اللحاق بدنياه
جميلة خاتمة القصة وأجمل ما فيها أنها تقترب من الخيال الذي نتوق إليه ولكنه بعيد المنال لأن الواقع قد يشوه الجمال فيجعله يشيح النظر إلى النافذة متذكرا بألم وحسرة كيف اجتمع مع هذه الكائنة الجالسةأمامه أو بجواره و التي يكاد لا يتعرف على ملامحها التي تغيرت كما تغير كل شىء حوله ويفيق من حسرته على صوت ابنه يطلب منه أن يركب القطار فينصحة بتجنبه لأن القطار أصبح كارثة متحركة على قضبان فقد يصادف جاموسة أو قطار قادم في نفس الاتجاه
:)
أنا كده بوظت الرومانسية الجميلة
سامحني فلم أعد أستطيع الانفصال عن الواقع ولو بالخيال
شفت أخي الكريم حصلنا ايه !!!!!!!!
السلام عليكم
قصه جميله كلها من البدايه للنهايه
وزى ما بيقولو ختامه مسك
ماشاء الله عليك وعلى اسلوبك الراقى
سيدى دمت ودام قلمك واسمك
سعدت بأول مرور وليس الاخير إن شاء الله
هضيف المدونه للمتابعه
تحيااااااااااتى
شذا الروح
الله عالجمال والحب الماثل في قلب هذا الشاب للقطار والحياة داخل القطار فهي حقا حياة سواء في الخارج أو في الداخل ....كنت دوما أحب الأراضي الزراعيه والفلاحين وهم يكدون ويزرعون ويحصدون ولكن اليوم لم أعد أرى الفلاح في حقله وسمعت إنه لم يعد يستيقظ عند الفجر علشان بيسهر يتفرج عالدش أو عالفيديو في القهوة ......خسارتكم يا أهل مصر بجد .......معلش دي آثار القطار تذكرتها و أنا اقرأ لك سيدي قصتك الجميلة ....خالص تحياتي ...لماذا لم تعد تزور منتدانا الطيب زبد البحر؟
الله عليك يا جنى فدائما ما ابتسم عندما اقرا كتابتك ووصفك لهذه الاحاسيس النادره والتى دائما ما تصف بالنقاء والجمال وغالبا ما تكتب عن اشياء تكون قريبه منى ايضا .
تحياتى لرقى قلمك ولصدق احساسك
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تحياتى لك أخى الكريم
أنا بصراحة علاقتى بالقطار ضعيفة جدا
لكنى إن ركبته يعجبنى جدا مشاهدة الحقول الخضراء
قصة جميلة
بارك الله فيك
الله ...
محبوكة اوى ..والسرد ممتع جدا
والنهاية رائعة ...
:)
إرسال تعليق