كان صديقي جنّي مولع بطبق الكشري بنفس ولعه بساندويتشات القشدة بمربى الفراولة مع كوب الحليب الساخن المحلى بالسكر وبنفس ولعه أيضا بطبق البليلة بالحليب والسكر والسمن البلدي .. وكلها أكلات من خارج البيت وأحيانا كانت منزلية الصنع .. وكانت هذه الوجبات الثلاث تمثل له إفطار شهي وإن لم تكن هذه فتلك وكان يتناوب تناولها يوم بيوم .. وكانت مشكلة الكشري المنزلي بالنسبة للصبي خلوه من المكرونة الاسباكتي فقد كانت تصنعه والدته من الأرز والعدس الأصفر وبدون الجبة .. وتحت إصرار الصبي صنعت له أمه الكشري المعروف .. ولكن والدته كانت تستثقل عمله لكثرة الأصناف التي تدخل في صناعته ( أرز – مكرونة عادية – مكرونة اسباكتي – عدس بجبة – شعيرية – حمص – تقلية – صلصة – شطة – دقة ) .. وكانت المشكلة الثانية تكمن في التقلية فهي ليست مقرمشة مثل التي يصنعها عم محمدي وأيضا الطعم يختلف تماما فلابد أن هناك سر .. وكان لابد من خطف صنايعي كشري وحبسه حتى يقر بسر الصنعة .. هذا ما حدثته به نفسه .. ولكنها فكرة جهنمية غير قابلة للتحقيق .. فلابد من التحايل على صنايعي الكشري ليخبره بالسر وخاصة التقلية .. وأخيرا وجد من يخبره بالسر وقال له : عند تقطيع البصل لابد أن يقطع إلى شرائح رقيقة جدا ثم توضع في زيت ساخن جدا .. وتمت التجربة وباءت بالنجاح .. وارتبط طبق الكشري في صباه بعم محمدي صاحب عربة الكشري والتي يقف بها في الميدان القريب من شارعهم وكان ينادي دائما بصوت جهوري : كشري غرام قوي .. وفي نفس الميدان كان محل عم لطفي الذي يصنع له ساندويتش القشدة بمربى الفراولة مع كوب الحليب الساخن والمحلى بالسكر .. أما طبق البليلة بالحليب والسكر والسمن البلدي فكان من عربة عم سلامة ..
وكان الصبي يحلم بنزول مصر ( كما كان يقول أهل بلدتنا المتاخمة لحدود القاهرة ( الضواحي ) .. بمفرده أو مع أصدقاءه ولكنه ما زال صغير على السفر .. وكان طبق الكشري يداعب خياله من محلات وسط البلد كما كان يسمع ممن هم أكبر منه .. وكان طبق الكشري بالنسبة له وجبة أساسية إذا نزل مصر .. وكان يداعب طبق الكشري عند تناوله كمن يداعب عروسه .. وكأن بينهم سر دفين لا يعلمه إلا هما .. وكان يحس بنشوة عجيبة عند تناول المكرونة الاسباكتي الممتزجة بالصلصة والشطة وهو يقوم بشفطها بين شفتيه .. متعة ما بعدها متعة .. وكان محل كشري صبحي بشارع عماد الدين أول مكان يدخله بعد قدومه لقاهرة المعز بواسطة القطار ( قبل ظهور مترو الأنفاق وقبل بناء مسجد الفتح .. وقبل تشويه الميدان بالكباري) حيث يخترق ميدان رمسيس ماشيا حتى يصل لشارع عماد الدين .. ويأكل من الكشري ما يحلو له .. وبعد الكشري لابد من أن يحبس بكوب عصير مانجو صيفا فلم تكن تستهويه مهلبية عم صبحي ..
أو يحلي بقطعة من الجاتوه من أميريكين عماد الدين شتاءا .. وكانت هذه الطقوس ديدن صاحبنا كلما نزل مصر منفردا أو مع أصدقاءه قبل التحاقه بجامعة عين شمس.. ولكن بعد التحاقه بالجامعة ما كان يستطيع القيام بطقوس الكشري بشكل يومي لقلة المصروف.. وكان ينتهز الفرصة كلما سمح له وقته لممارسة طقوسه الكشرية .. وفي أحد أيام الشتاء اجتمع صاحبنا مع بعض أصدقاء بلدته وقرروا نزول مصر للتسوق .. وكعادتهم توجهوا لمحل كشري صبحي .. وطلبوا الكشري وجاءهم ما طلبوه وكان صاحبنا يطلب المزيد من التقلية المقرمشة .. ولكن معظمهم لم يقتنع بالشطة الموجودة بقارورة أماهم على المنضدة فهي ليست حارة كفاية .. وطلبوا من الرجل أن يحضر لهم شطة شطة وليست مثل التي أمامهم على المنضدة فهي بالكاد يمكن أن يطلق عليها شطة .. وذهب الرجل وعاد ومعه طبق صغير يشبه طبق فنجان القهوة وبه كمية قليلة من الشطة شديدة الاحمرار فنظروا له شذرا .. فابتسم الرجل وقال : تذوقوها أولا .. وتقاسموها .. وتناولوا الكشري - فوحوح - الجميع وضحك الرجل .. ولأول مرة يتفصد العرق من جباههم بهذا الشكل وهم في الشتاء حتى أقدامهم داخل الحذاء والجورب تعرقت أيضا .. وأحسوا جميعا باحمرار آذانهم ( زنهرت ) وسخونة تخرج من كل أجسادهم .. فقد كانت الشطة مركزة جدا .. وكان طبق الكشري وكوب عصير المانجو أو قطعة الجاتوه لا يزيد ثمنهم عن الجنيه الواحد بل أقل .. ولكن اليوم كم من الجنيهات لابد من أن تدفعها مقابل طبق الكشري وكوب عصير المانجو أو قطعة الجاتوه ؟ وكما قال بلال فضل يوما من أنه كان يرى رجل فقير يقف أمام محل الجزارة محدثا الذبيحة المعلقة قائلا : في الجنة ونعيمها إن شاء الله .. فهل نرى مثل هذا الرجل يقف أمام محل الكشري قائلا : في الجنة ونعيمها إن شاء الله ...